الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تاريخ ابن خلدون المسمى بـ «العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر» (نسخة منقحة)
.الخبر عن قدوم أبي زيان حافد السلطان أبي تاشفين ثانية من المغرب إلى تلمسان لطلب ملكها وما كان من أحواله: كان العرب من سويد إحدى بطون زغبة فيئة لبني مرين وشيعة من عهد عريف بن يحيى مع السلطان أبي الحسن وابنه أبي عنان فكانوا عند بني عبد الواد في عداد عدوهم من بني مرين طاغية الدولة لبني عامر أقتالهم فكانوا منابذين لبني عبد الواد آخر الأيام وكان كبيرهم ونزمار بن عريف أوطن كرسف في جوار بني مرين مذ مهلك السلطان أبي عنان وكان مرموقا بعين التجلة يرجعون إلى رأيه ويستمعون إلى قوله وأهمه شأن إخوانه في موطنهم ومع أقتالهم بني عامر فاعتزم على نقض الدولة من قواعدها وحمل صاحب المغرب عمر بن عبد الله على أن يسرح محمد بن عثمان حافد أبي تاشفين لمعاودة الطلب لملكه ووافق ذلك نفرة استحكمت بين السلطان أبي حمو وأحمد بن رحو بن غانم كبير أولاد حسن من المعقل بعد أن كانوا فيئة له ولوزيره عبد الله بن مسلم فاغتنمها عمر بن عبد الله وخرج أبو زيان محمد بن عثمان سنة خمس وستين وسبعمائة فنزل في حلل المعقل بملوية ثم نهضوا به إلى وطن تلمسان وارتاب السلطان أبو حمو بخالد بن عمر أمير بني عامر فتقبض عليه وأودعه المطبق ثم سرح وزيره عبد الله بن مسلم في عسا كر بني عبد الواد والعرب فأحسن دفاعهم وانفضت جموعهم ورحلهم إلى ناحية الشرق وهو في اتباعهم إلى أن نزلوا المسيلة من وطن رياح وصاروا في جوار الزواودة ثم نزل بالوزير عبد الله بن مسلم داء الطاعون الذي عاود أهل العمران عامئذ من بعدما أهلكهم سنة تسع وأربعين وسبعمائة قبلها فانكفأ به ولده وعشيرته راجعين وهلك في طريقه وأرسلوا شلوه إلى تلمسان فدفن بها وخرج السلطان أبو حمو إلى مدافعة عدوه وقد فت مهلك عبد الله في عضده ولما انتهى إلى البطحاء وعسكر بها ناجزته جموع السلطان أبي زيان الحرب وأطلت راياته على المعسكر فداخلهم الرعب وانفضوا وأعجلهم الأمر عن أبنيتهم وأزوادهم فتركوها وانفضوا وتسلل أبو حمو يبغي النجاة إلى تلمسان واضطرب أبو زيان فسطاطه بمكان معسكره وسابقه أحمد بن رحو أمير المعقل إلى منجاته فلحقه بسيك وكر إليه السلطان أبو حمو فيمن معه من خاصته وصدقوه الدفاع فكبا به فرسه وقطع رأسه ولحق السلطان أبو حمو بحضرته وارتحل أبو زيان والعرب في اتباعه إلى أن نازلوه بتلمسان أياما وحدثت المنافسة بين أهل المعقل وزغبة واسف زغبة استبداد المعقل عليهم وانفراد أولاد حسين برأي السلطان دونهم فاغتنمها أبو حمو وأطلق أميرهم عامر بن خالد من محبسه وأخذ عليه الموثق من الله ليخذلن الناس عنه ما استطاع وليرجعن بقومه عن طاعة أبي زيان وليفرقن جموعه فوفى له بذلك العهد ونفس عليه المخنق وتفرقت أحزابهم ورجع أبو زيان إلى مكانه من إيالة بنى مرين واستقام أمر السلطان أبي حمو وصلحت دولته بعد الالتياث إلى أن كان من أمره ما نذكره إن شاء الله تعالى..الخبر عن حركة السلطان أبي حمو على ثغور المغرب: كان ونزمار بن عريف متولي كبر هذه الفتن على أبي حمو وبعث الأعياص عليه واحدا بعد واحد لما كان بينهم من العداوة المتصلة كما قدمناه وكان منزله كرسيف من ثغور المغرب وكان جاره محمد بن زكراز كبير بني علي من بني ونكاسن الموطنين بجبل دبدو وكانت أيديهما عليه واحدة فلما سكن غرب الثوار عنه وأزاحهم عن وطنه إلى المغرب وانعقد سلمه معهم رأى أن يعتور هذين الأميرين في ثغورهما فاعتمل الحركة إلى المغرب فاتح سنة ست وستين وسبعمائة وانتهى إلى دبدو وكرسيف وأجفل ونزمار وامتنع بمعاقل الجبال فانتهب أبو حمو الزروع وشمل بالتخريب والعيث سائر النواحي وقصد محمد بن زكراز أيضا في معقل دبدو فامتنع بحصنه الذي اتخذه هناك وعاج عليه أبو حمو بركابه وجاس خلال وطنه وشمل بالتخريب والعيث نواحي بلده وانكفأ راجعا إلى حضرته وقد عظمت في تخوم بني مرين وثغورهم نكايته وثقلت عليهم وطأته وانعقدت بينهما بعد بدء المهادنة والسلم فانصرفت عزائمه إلى بلاد إفريقية فكانت حركته إلى بجاية من العام المقبل ونكبته عليها كما نذكره إن شاء الله تعالى..الخبر عن حركة السلطان أبي حمو إلى بجاية ونكبته عليها: كان صاحب بجاية المولى الأمير أبو عبد الله لما استولى عليها وعادت إليها العودة الثانية سنة خمس وستين وسبعمائة كما ذكرناه في أخباره زحف إلى تدلس فغلب عليها بني عبد الواد وأنزل بها عامله وحاميته ثم أظلم الجو بينه وبين صاحب قسنطينة السلطان أبي العباس بن عمه الأمير أبي عبد الله لما جرته بينهما المتاخمة في العمالات فنشأت بينهما فتن وحروب شغل بها عن حماية تدلس وألحت عليها عسكر بني عبد الواد بالحصار وأحيط بها فأوفد رسله على السلطان أبي حمو صاحب تلمسان في المهادنة على النزول له عن تدلس فتسلمها أبو حمو وأنزل بها حاميته وعقد معه السلم وأصهر إليه في ابنته فأجابه وزفها إليه فتلقاها قبلة زواوة بآخر عملهم من حدود بجاية وفرغ صاحب بجاية لشأنه وكان أثناء الفتنة معه قد بعث إلى تونس عن أبي زيان ابن عمه السلطان أبي سعيد لينزله بتدلس ويشغل به السلطان أبا حمو عن فتنته.وكان من خبر أبي زيان هذا أنه أقام بتونس بعد مهلك الحاجب أبي محمد بن تافراكين كما ذكرناه إلى أن دس إليه مرضى القلوب من مشيخة بني عبد الواد بتلمسان بالإجلاب على السلطان أبي حمو ووعدوه عن أنفسهم الجنوح معه فصغى إليها واعتدها وارتحل يريد تخوم تلمسان وعمل بجاية ومر بقسنطينة فتجافى عن الدخول إليها وتنكر لصاحبها وبلغ خبره السلطان أبا العباس صاحبها يومئذ فأجمع أمره على صده عن وجهه وحبسه بقسنطينة واتصلت الفتنة بينه وبين بن عمه صاحب بجاية وكان شديد الوطأة على أهل بلده مرهف الحد لهم بالعقاب الشديد حتى لقد ضرب أعناق خمسين منهم قبل أن يبلغ سنتين في ملكه فاستحكمت النفرة وساءت الملكة وعضل الداء وفزع أهل البلد إلى مداخلة السلطان أبي العباس باستنفاذهم من ملكة العسف والهلاك بما كان أتيح له من الظهور على أميرهم فنهض إليها آخر سنة سبع وستين وسبعمائة وبرز الأمير أبو عبد الله للقائه وعسكر بنامروا الجبل المطل على تاكردت وصبحه السلطان أبو العباس بمعسكره هنالك فاستولى عليه وركض هو فرسه ناجيا بنفسه ومرت الخيل تعادي في أثره حتى أدركوه فأحاطوا به وقتلوا قعصا بالرماح عفا الله عنه وأجاز السلطان أبو العباس إلى البلد فدخلها منتصف يوم العشرين من شعبان ولاذ الناس به من دهش الواقعة وتمسكوا بدعوته وآتوه طاعتهم فانجلت القيامة واستقام الأمر وبلغ الخبر إلى السلطان أبي حمو فأظهر الامتعاض لمهلكه والقيام بثأره وسير من ذلك حشوده في ارتقاء ونهض يجر الأمم إلى بجاية من العرب وزناتة والحشد حتى أناخ بها وملأت مخيماته الجهات بساحتها وجنح السلطان إلى مبارزته فتمهد به أهل البلد ولاذوا بمقامه فأسعفهم وطير البريد إلى قسنطينة فأطلق أبا زيان من الاعتقال وسوغه الملابس والمراكب والآلة وزحف به مولاه بشير في عسكر إلى أن نزل حذاء معسكر أبي حمو واضطربوا محلهم بسفح جبل بني عبد الجبار وشنوا الغارات على معسكر أبي حمو صباحا ومساء لما كان نمي إليهم من مرض قلوب جنده والعرب الذين معه وبدا للسلطان أبي حمو ما لم يحتسب من امتناعها وكان تقدم إليه بعض سماسرة الفتن بوعد على لسان المشيخة من أهل البلد أطمعه فيها ووثق بأن ذلك يغنيه عن الاستعداد فاستبق إليها وأغفل الحزم فبما دونها فلما امتنعت عليه انطبق الجو على معسكره وفسدت السابلة على العير للميرة واستجم الزبون في احياء معسكره بظهور العدو المساهم في الملك وتفادت رجالات العرب من سوء المغبة وسطوة السلطان فتمشوا بينهم في الانفضاض وتحينوا لذلك وقت المناوشة وكان السلطان لما كذبه وعد المشيخة أجمع قتالهم واضطرب الفساطيط مضايقة للأسوار متسنمة وعرا من الجبل لم يرضه أهل الرأي وخرج رجل الجبل على حين غفلة فجاولوا من كان بتلك الأخبية من المقاتلة فانهزموا أمامهم وتركوها بأيديهم فمزقوها بالسيوف وعاين العرب على البعد انتهاب الفساطيط فأجفلوا وانفض المعسكر بأجمعه وحمل السلطان أبو حمو أثقاله للرحلة فأجهضوه عنها فتركها وانتهب مخلفه أجمع وتصايح الناس بهم من كل حدب وضاقت المسالك من ورائهم وأمامهم وكظت بزحامهم وتواقعوا لجنوبهم فهلك الكثير منهم وكانت من غرائب الواقعات تحدث الناس بها زمانا وسيقت حظاياه إلى بجاية واستأثر الأمير أبو زيان منهن بحظيته الشهيرة ابنة يحيى الزابي ينسب إلى عبد المؤمن بن علي وكان أصهر فيها إلى أبيها أيام تقلبه في سبيل الاغتراب ببلاد الموحدين كما سبق وكانت أعلق بقلبه من سواها فخرجت في مغانم الأمير أبي زيان وتحرج عن مواقعتها حتى أوجده أهل الفتيا السبيل إلى ذلك لحنث زعموا وقع من السلطان أبي حمو في نسائه وخلص السلطان أبو حمو من هوة ذلك العصب بعد غصة الريق ونجا إلى الجزائر لا يكاد يرد النفس من شناعة ذلك الهول ثم خرج منها ولحق بتلمسان واقتعد سرير ملكه واشتدت شوكة أبي زيان ابن عمه وتغلب على القاصية واجتمعت إليه العرب وكثر تابعه وزاحم السلطان أبا حمو بتلك الناحية الشرقية سنين تباعا نذكر الآن أخبارها إن شاء الله تعالى.
|